أخذ مني المصحف ثم وضعه أمامه وبدأ في قراءة السورة ... وعيناه مغمضتان ... يا الله !! إنّه يحفظ سورة الكهف كاملة !!
خجلت مننفسي. أمسكت مصحفاً ... أحسست برعشة في أوصالي... قرأت وقرأت.. دعوت الله أن يغفرلي ويهديني. لم أستطع الاحتمال ... فبدأت أبكي كالأطفال. كان بعض الناس لا يزال فيالمسجد يصلي السنة ... خجلت منهم فحاولت أن أكتم بكائي. تحول البكاء إلى نشيج وشهيق ...
لم أشعر إلا ّ بيد صغيرة تتلمس وجهي ثم تمسح عنّي دموعي. إنه سالم !! ضممته إلى صدري... نظرت إليه. قلت في نفسي... لست أنت الأعمى بل أنا الأعمى، حينانسقت وراء فساق يجرونني إلى النار .
عدنا إلى المنزل. كانت زوجتي قلقةكثيراً على سالم، لكن قلقها تحوّل إلى دموع حين علمت أنّي صلّيت الجمعة مع سالم ..
من ذلك اليوم لم تفتني صلاة جماعة في المسجد. هجرت رفقاء السوء .. وأصبحتلي رفقة خيّرة عرفتها في المسجد. ذقت طعم الإيمان معهم. عرفت منهم أشياء ألهتنيعنها الدنيا. لم أفوّت حلقة ذكر أو صلاة الوتر. ختمت القرآن عدّة مرّات في شهر. رطّبت لساني بالذكر لعلّ الله يغفر لي غيبتي وسخريتي من النّاس. أحسست أنّي أكثرقرباً من أسرتي. اختفت نظرات الخوف والشفقة التي كانت تطل من عيون زوجتي. الابتسامةما عادت تفارق وجه ابني سالم. من يراه يظنّه ملك الدنيا وما فيها. حمدت الله كثيراًعلى نعمه . ذات يوم ... قرر أصحابي الصالحون أن يتوجّهوا إلى أحدى المناطق البعيدةللدعوة. تردّدت في الذهاب. استخرت الله واستشرت زوجتي. توقعت أنها سترفض... لكن حدثالعكس !
فرحت كثيراً، بل شجّعتني. فلقد كانت تراني في السابق أسافر دوناستشارتها فسقاً وفجوراً . توجهت إلى سالم. أخبرته أني مسافر فضمني بذراعيهالصغيرين مودعاً ...
تغيّبت عن البيت ثلاثة أشهر ونصف، كنت خلال تلك الفترةأتصل كلّما سنحت لي الفرصة بزوجتي وأحدّث أبنائي. اشتقت إليهم كثيراً ... آآآه كماشتقت إلى سالم !! تمنّيت سماع صوته... هو الوحيد الذي لم يحدّثني منذ سافرت. إمّاأن يكون في المدرسة أو المسجد ساعة اتصالي بهم.
كلّما حدّثت زوجتي عن شوقيإليه، كانت تضحك فرحاً وبشراً، إلاّ آخر مرّة هاتفتها فيها. لم أسمع ضحكتهاالمتوقّعة. تغيّر صوتها ..
قلت لها: أبلغي سلامي لسالم، فقالت: إن شاء الله ... وسكتت ...
أخيراً عدت إلى المنزل. طرقت الباب . تمنّيت أن يفتح ليسالم، لكن فوجئت بابني خالد الذي لم يتجاوز الرابعة من عمره. حملته بين ذراعي وهويصرخ: بابا .. بابا .. لا أدري لماذا انقبض صدري حين دخلت البيت .
استعذتبالله من الشيطان الرجيم ..
أقبلت إليّ زوجتي ... كان وجهها متغيراً. كأنهاتتصنع الفرح .
تأمّلتها جيداً ثم سألتها: ما بكِ؟قالت: لا شيء .
فجأة تذكّرت سالماً فقلت .. أين سالم ؟خفضت رأسها. لم تجب. سقطتدمعات حارة على خديها ...
صرخت بها ... سالم! أين سالم .. ؟لمأسمع حينها سوى صوت ابني خالد يقول بلغته: بابا ... ثالم لاح الجنّة ... عند الله ...
لم تتحمل زوجتي الموقف. أجهشت بالبكاء. كادت أن تسقط على الأرض، فخرجتمن الغرفة .
عرفت بعدها أن سالم أصابته حمّى قبل موعد مجيئي بأسبوعينفأخذته زوجتي إلى المستشفى .. فاشتدت عليه الحمى ولم تفارقه ... حين فارقت روحهجسده ..
إذا ضاقت عليك الأرض بما رحبت، وضاقت عليك نفسك بما حملت فاهتف ... يا اللهإذا بارت الحيل، وضاقت السبل، وانتهت الآمال، وتقطعت الحبال، نادي ... يا اللهلا اله الا الله رب السموات السبع ورب العرشالعظيم